والصبح إذا تنفس وتفسير سورة التكوير

والصبح إذا تنفس ومرادها وما المضمون منها؟ ولماذا أقسم الله –تعالى- هذا القسم وما هو المقسم عليه هنا؟ وما سبب نزول هذه الآية وسبب نزول سورة التكوير ككل؟

هذا ما سيكون مدار حديثنا اليوم إن شاء الله.

والصبح إذا تنفس

يقول الله –تعالى- في سورة التكوير: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)، ولكي نفهم معنى قوله –تعالى-: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) يجب أن نتعرف على معاني الآيات التي سبقتها أولًا، فآيات القرآن محكمات متصل بعضها ببعض، فلا تُفْهَمُ الآية إلا بعد فهم الآية التي قبلها، وهو ما سنبدأ شرحه وتفصيله في السطور القادمة.

إقرأ أيضًا: إذا زلزلت الارض زلزالها تفسير سورة الزلزلة وسبب نزولها

تفسير قوله –تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)

أولًا يجب علينا توضيح أن الله –تعالى- من حقه أن يقسم بما شاء من مخلوقاته من النجوم والكواكب وأي شيء آخر، فهو خالقها ومدبر أحوالها، وأمثلة هذا في القرآن كثيرة، فقد افتتحت سورة الفجر بقوله –تعالى-: (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)، فقد أقسم الله –تعالى- هنا بالفجر وهو وقت الصبح المعروف، وأقسم أيضًا بالليالِ العشر وهي العشر الأوائل من ذي الحجة على أرجح الأقوال والتي يكون فيها يوم عرفة، ثم أقسم بعد ذلك بـ (الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) والمراد بهما يوم عرفة وأول أيام عيد الأضحى المبارك، وذلك لأن يوم عرفة هو اليوم التاسع فهو وترًا (أي رقمًا فرديًا)، ويوم النحر هو العاشر فيكون شفعًا (أي رقمًا زوجيًا)، وأقسم أيضًا بـ (اللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) أي: إذا اختفى أو ذهب وطلع النهار.

وكل ذلك من مخلوقات الله –تعالى- فله أن يقسم بها متى شاء، والآيات في ذلك كثيرة غير هذه الآيات ولكن المقام لا يتسع لذكرها.

فقد أقسم الله –تعالى- بـ (الْخُنَّسِ) وفي تفسيرها أقوال:-

  • قال السعدي في تفسيره: “هي النجوم التي تُخَنَّس أي: تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق، وهي النجوم السبعة السيارة: (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشترى، والمريخ، وزحل، وعطارد)”.

فقد عرف العرب منذ القدم أن النجوم والأفلاك كلها لها سير واحد باتجاه المغرب وهذا عام على جميع النجوم، ولكن هذه النجوم السبعة هي الوحيدة التي عرفت بأن لها سيرًا آخر يميزها عن باقي النجوم والأفلاك، فهي تسير أيضًا باتجاه المشرق، ولهذا فقد أسماها الله بـ (الْخُنَّسِ) لأنها تحيد عن رَكْبِ النجوم والأفلاك الأخرى وتتخذ لها مسارًا خاصًا بها.

  • وذُكر في تفسير الطبري أن معناها: “النجوم الدراريّ الخمسة وهي: (بَهْرام، وزُحَل، وعُطارد، والزُّهَرَة، والمُشْتَرِي)” والدراريّ هي التي إذا طلع النهار أظلمت وانطفئت واستترت في منازلها وأبراجها، وإذا جاء الليل لمعت وبرزت وظهرت في السماء، وسميت بالنجوم الدراريّ أي التي لا تنزل منازل القمر كباقي النجوم، وقيل لأنها تكون ظاهرة أكثر من غيرها من النجوم.

تفسير قوله -تعالى: (الْجَوَارِ الْكُنَّسِ)

و(تُكَنَّس) عند العرب أي تستتر وتختفي كما تستتر الضباع في جحورها، فهي كما ذكرنا تبرز وتظهر للعيان ليلًا ثم تختفي وتستتر نهارًا، وهو قول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وقد وافقه القرطبي وابن كثير وجماعة آخرين من المفسرين.

وقد اختلف فيها العلماء والمفسرون فقال بعضهم أيضًا أن المقصود بها هي “بقر الوحش”، وبقر الوحش أو البقر الوحشي هو ما خالف البقر الأهلية التي نعرفها وتذبح في الأضاحي، و”بقر الوحش” اسم لعدة دواب منها الإبل والوعل والظبي الأجوف القرون (أي ما كانت قرونه فارغة من الداخل) ، والظبي هو حيوان من الثدييات يشبه في شكله الثور في بعض فصائله كاظبي السابل في غابات السافانا الإفريقية، ويشبه أيضًا الغزال في بعض الفصائل الأخرى.
فمن قال بهذا القول فقد استبعد أن يكون معنى (الخُنَّس) هو النجوم كما ذكرنا، وقد مالوا إلى أن يكون (تَكَنُّسُها) هو إيوائها إلى مخابئها وجحورها ومغاراتها.

والصواب في ذلك كما ذكر المفسر ابن جرير الطبري في تفسيره أن يقال: إن الله تعالى أقسم بأشياء تظهر أحيانًا وتختفي أحيانًا أخرى بغض النظر عن ماهية هذه الأشياء، ولكن غذا رجعنا إلى تفسير العرب  فإن معنى (الكُنَّسِ) عندهم: هي المخابئ التي ترجع إليها البقر الوحشية كما ذكر القول الثاني، وقد دلل الطبري على ذلك من شعر العرب بقول “أوس بن حَجَر”:

أَلَــمْ تَــرَ أنَّ اللــهَ أنـزلَ مُزْنَـةً                        وعُفْـرُ الظِّبـاءِ فـي الكِنـاسِ تَقَمَّـعُ

والـمُزْنَـةً في كلام العرب هي المطرة، فقد وصف الشاعر أن الله –تعالى عندما يرسل المطر فإن البقر الوحشي أو الظباء تختفي في مخابئها وتُقمع.

إقرأ أيضًا: سبب نزول سورة القلم وتفسيرها والأحكام التي وردت بها

تفسير قوله –تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ)

أقسم الله –تعالى مجددًا بخلقٍ من مخلوقاته فقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ) وفيها أقوال:

  • أولهما أن معنى (عَسْعَسَ) أي أدبر واختفى مع طلوع النهار وإقبال الصبح وهو قول عبد الله بن عبّاس وعدة مفسرين أشهرهم مجاهد بن جبر وقتادة بن دعامة والإمام الضحَّاك وغيرهم الكثير أيضًا.

واستدل بعض من قال بذلك بأن الآية التي بعدها تقول: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) أي: عمَّ ضياءه، فهي كقول الشاعر علقمة بن قرط:

حتّى إذا الصبح لها تنفسَا                          وانجاب عنها ليلها وعسعسَا

  • وثانيهما أن معناها إذا جاء وأقبَل فغطى بظلامه السماء الدنيا كلها، وذَكر الحافظ بن كثير في تفسيره أنه يستعمل في المعنيين (الإقبال والإدبار) عند العرب ولكن الإقبال هو الأنسب هنا.

تفسير قوله –تعالى-: (وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ)

يقسم الله-تعالى- بالصبح إذا أضاء الكون فظهر نوره للبشر جميعهم لا يَخْفى على أحد منهم، وليس المعنى هنا إذا طَلُع النهار فحسب، بل إذا صار واضحًا جليًا يشاهده كل مشاهد، وهو قول الطبري والقرطبي وجماعةٌ من المفسرين.

وقيل أن معنى (تَنَفَّسَ) أي: نشأ، وبهذا يكون المرادوقت نشوء النهار أي: بداية طلوعه في أول الصبح، وهذا قول التابعي سعيد بن جبير وقد رواه عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-.

وقيل في معناها أيضًا: أن التَنَفُّس هنا بمعنى الانشقاق والكسر، يقال: تَنَفَّسَتِ الرمح أي انكسرت وتشققت.

تفسير قوله –تعالى-: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)

وهذه الآية هي المقسم عليه، أي: هو جواب القسم في كل الآيات السابقة وهو الذي يراد إثباته وتحقيقه في الآيات السابقة.

والمقصود بالقول هنا هو القرآن الكريم، حيث كان الكفار يُكَذِّبُون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون عنه شاعر قد جاء بالقرآن من محض شعره وعقله، فهذا تأكيد من الله لهم على أن القرآن هو كتابٌ مُنَزَّلٌ أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق أمين الوحي جبريل –عليه السلام-، وأمر الله نبيه بتبليغه للناس ودعوتهم إليه وإلى تعاليمه السمحة.

والمراد بقوله 🙁 رَسُولٍ كَرِيمٍ) هو جبريل -عليه السلام- وهو المتلقي للوحي من الله –تعالى-، والكريم بمعنى جميل الخِلْقَة حسن المظهر، وهو قول جمهور المفسرين كابن عبَّاس وقتادة والضحاك وغيرهم.

إقرأ أيضًا: من هو ابو جهل وموافقة تجاه الدعوة الإسلامية وتجاه النبي صلى الله عليه وسلم

قصة أبي جهل مع سورة التكوير

لما نزل قول الله –تعالى-:(لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ)، قال أبو جهلٍ:(ذَلِكَ إِلَيْنَا إِنْ شِئْنَا اسْتَقَمْنَا وَإِنْ لَمْ نَشَأْ لَمْ نَسْتَقِمْ) فهو يقصد أن الله ليس له من أمور عباده شيئًا وللعبد حق الاختيار ما إذا كان يريد الهداية أو الضلال، فرد الله –تعالى- عليه بقوله في آخر آيةٍ في السورة: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) فمشيئة العبد تسبقها مشيئة الله لا تتبعها، فالله هو المقدر لأمور العباد وحده.

إلى هنا نكون قد انتهينا من تفصيل أقوال المفسرين في موضوعنا اليوم عن والصبح إذا تنفس، على أمل أن تكونوا قد استمتعم يقراءة هذا الموضوع وأن يكون قد أنعش معلوماتكم ومخزونكم الثقافي، وأرجو من الله ألا يكون هذا الموضوع ثقيلًا على صدوركم، والله ولي التوفيق.

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.