قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه
معاذ بن جبل الصحابي الجليل الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أعلم أمة محمد بالحلال والحرام، وهو الذي اهتدى وأسلم على يده الجمعُ الغفير من الصحابة -رضوان الله عليهم- أجمعين، فقد كان داعيًا إلى الله -تعالى- منذ اللحظة الأولى لنطقه بالشهادتين، وكان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عند إسلامه شابًا لم يزل في سن صغير، ومع ذلك فقد أسلم على يده سيد من كبار سادات قومه من بني سلمة.
في هذا الموضوع سنتعرف معًا على سيرة هذا الصحابي الجليل ومنزلته وقصة إسلامه ورحلته في الدعوة إلى الله تعالى.
معاذ بن جبل
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، وكنيته أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري.
أسلم معاذ بن جبل –رضي الله عنه- وهو في سنٍ لم يتجاوز الإحدى والعشرين عامًا من عمره، فقد قيل أنه أسلم وهو ابن ثمانية عشر عامًا، وقيل أنه أسلم ولم يزل في العشرين من عمره، وأكبر الأقوال أنه كان في سن الحادية والعشرين عندما أسلم، وجميعها أقوال تدل على معنى واحد فقط وهو أنه لا يشترط أن تكون في سنٍ كبير لكي تصبح ذا شأن في أمتك ومجتمعك، فقد قاد الأمير محمد بن القاسم الثقفي جيش الإسلام ضد أعظم جيوش الأرض آنذاك ألا وهو “جيش الإمبراطورية الساسانية الفارسية” وهو لم يزل في سن السابعة عشر من عمره، وفتح الله على يديه بلاد السند والهند، وبلاد السند هي مقاطعة من المقاطعات الواقعة في جنوب شرق باكستان حاليًا.
وقد تولى فاتح القسطنطينية محمد الفاتح عرش الدولة العثمانية وهو ابن 22 عامًا فقط.
فالتاريخ يثبت أن العظماء لم يكونوا محصورين على أصحاب الأعمار الكبيرة فقط، وإنّما كان ولا يزال هناك عظماء بدأوا أعمالهم المجيدة وهم في سن صغيرة، فبعد إسلام معاذ بن جبل مباشرة بدأ بالدعوة إلى الله في قومه، فتشارك معاذ بن جبل مع صديقه معاذ بن عمرو بن الجموح –رضوان الله عليهم- في دعوة عمرو بن الجموح سيد بني سلمة آنذاك، فكان إسلام عمرو بن الجموح –رضي الله عنه- في ميزان حسنات هذين الصحابيين الجليلين.
وليس عمرو بن الجموح –رضي الله عنه- أول الصحابة الذين أسلموا على يد معاذ بن جبل –رضي الله عنه- ولا آخرهم أيضًا، فقد أسلم العديد من الصحابة على يد هذا الصحابي الجليل كذلك.
وسوف نبدأ الآن بمعرفة قصة إسلام معاذ بن جبل –رضي الله عنه- وكيف بدأ تعرفه على هذا الدين منذ البداية؟
إقرأ أيضًا: من هو سيد القراء؟ والصحابي الملقب بسيد القراء وأحاديث عن أبي بن كعب
قصة بيعة العقبة الأولى وعلاقتها بإسلام معاذ بن جبل –رضي الله عنه
بعد جهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته ومعارضته من قِبَل مشركي أهل مكة آنذاك، بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعرض دعوته على وفود الحُجَّاج القادمة من البلاد الأخرى لزيارة بيت الله الحرام.
وكان من ضمن هؤلاء الوفود وفدٌ يبلغ عدده ستة أشخاص من الخزرج الذين كانوا يقطنون يثرب آنذاك، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى دين الإسلام وتعاليمه السمحة، فرأى هؤلاء الستة في تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وأدًا لنار الفتنة والحروب والنزاعات التي اشتعلت في الجاهلية بين الأوس والخزرج،فأسلم هؤلاء الستة ثم رجعوا إلى ديارهم في يثرب وبدأو بتبليغ رسالة الإسلام ودعوة أهل يثرب إلى تعاليمه السمحة، حتى جاء موسم الحج في العام التالي فرجع خمسة أشخاص من هؤلاء الستة ومعهم سبعة أشخاص آخرين ممن آمنوا بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم واجتمعوا معه فيما عرف تاريخيًا بـ “بيعة العقبة الأولى”، فبايعوه على ألا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا وبقية الشروط المذكورة في قوله –تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وكانت هذه البيعة في العام الثاني عشر للبعثة.
وقبل أن يرجعوا إلى ديارهم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير –رضي الله عنه- أول سفير في الإسلام ليعلمهم دينهم وتعاليمه ويرئهم كتاب الله –عز وجل- ويدعوا غيرهم من أهل يثرب حتى يدخلوا إلى هذا الدين الحنيف.
قصة إسلام معاذ بن جبل رضي الله عنه
كان اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير لكي يكون سفيرًا للدعوة اختيارًا صائبًا، فقد كان يمتلك أسلوبًا خاصًا في الإقناع والدعوة، وفوق ذلك كله كان يمتلك إخلاصًا لهذا الدين وما يدعو إليه، فكانت النتيجة أن أسلم على يدي مصعب الكثير والكثير من أهل يثرب كان على رأسهم سيدان من سادة أكبر القبائل في يثرب وهما معاذ بن جبل وأسيد بن حضير –رضي الله عنهما- سيدا الأوس، وسعد بن عبادة –رضي الله عنه- سيد الخزرج، فكان ذلك مثابة الخبر المدوِّي في يثرب.
وكان من بين الذين أسلموا على يد مصعب أيضًا بطل حكايتنا معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، وكان قبل إسلامه كارهًا للأصنام غير معترفٍ بها كآلهة، فلّما جلس مع مصعب بن عمير وعرّفه بتعاليم هذا الدين اقتنع به تمام الاقتناع، بل وكان يتلهّف شوقًا لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعد عام واحدٍ من بيعة العقبة الأولى، قدِم وفدٌ من الأنصار على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة النبوية، وقد ضمّ هذا الوفد ثلاث وسبعين رجلًا وامرأتان، وكان من بينهم معاذ بن جبل -رضي الله عنه-.
تلخصت شروط هذه البيعة في الحديث الصحيح الذي رواه جابر بن عبدالله –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بيعة العقبة الثانية لأهل هذه البيعة: “تُبايِعوني على السَّمعِ والطَّاعةِ في النَّشاطِ والكسَلِ وعلى النَّفقةِ في العُسرِ واليُسرِ وعلى الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ وعلى أنْ تقولوا في اللهِ لا يأخُذُكم في اللهِ لومةُ لائمٍ وعلى أنْ تنصُروني إذا قدِمْتُ عليكم وتمنَعوني ما تمنَعونَ منه أنفسَكم وأزواجَكم وأبناءَكم فلكم الجنَّةُ”.
فكانت تلك البيعة تمهيدًا لمجئ النبي صلى الله عليه وسلم وقدومه أرض يثرب لبدء نشر الدعوة من هناك.
بعد ذلك عاد معاذ بن جبل –رضي الله عنه- وعاد أهل البيعة إلى ديارهم في يثرب منتظرين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهجرته إليهم.
قصة إسلام عمرو بن الجموح على يد معاذ بن جبل
ذكرنا قبل ذلك أن معاذ بن جبل – رضي الله عنه- كان أحد الأسباب لإسلام عمرو بن الجموح أحد سادة بني سلمة من الأوس قبل الإسلام، ولكن ما هي قصة إسلام عمرو بن الجموح وما دور معاذ بن جبلٍ فيها؟
في البداية كان للعرب عادة قديمة، وهي أن الأشراف وسادات القوم كانوا ينحتون لأنفسهم صنمًا خاصًا يصلُّون إليه ويعبدونه، فكان لكل واحد من عِلْيَة القوم صنمٌ خاص به هو فقط ويختلف عن بقية الأصنام المشهورة التي كان يذهب إليها عامة الناس، ولم يختلف عمرو بن الجموح عن غيره من السادة في ذلك، فكان له صنم معه دائمًا وقد اختار له اسم “مناف” كاسم له.
اتفق “معاذ بن عمرو بم الجموح” مع صديقه “معاذ بن جبل” على أخذ صنم أبيه ليلًا وإلقائه في بئرٍ كان الناس يقضون حاجتهم فيها، وبعدما فعلوا ذلك ذهب عمرو بن الجموح يبحث عن صنمه جيئةً وذهابًا حتى وجده في تلك الحفرة فقال وهو يستشيط غضبًا: “ويلكم! من عدا على آلهتكم هذه الليلة؟”، ثمّ أزال عنه القاذورات ونظَّفه وأخذ يضع له عطرًا ليزيل عنه رائحته الكريهة.
أخذ الصحابيان الجليلان يكرران فعلتهما مرة تلو الأخرى، وعمرو بن الجموح يأخذ صنمه كل يوم من وسط النجاسات ويطهره ويعطّره، حتى غضب عمرو مما يحدث لصنمه فأمسك سيفًا ووضعه بجانب صنمه وقال: “إن كان فيك خيرٌ فدافع عن نفسك”.
نام عمرو بن الجموح واستيقظ فوجد السيف في مكانه والصنم قد اختفى، فذهب فوجد صنمه في نفس الحفرة وبجانبه كلبٌ ميت متعفن، فأيقن عمرو أن هذه الآلهة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، فهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها الأذى فكيف تدفعه عن من يعبدونها؟، وهذا ما كان معاذ بن عمرو وصديقه يهدفان إليه من فعلتهما تلك.
دعوته إلى الله
كان معاذ بن جبلٍ –رضي الله عنه- خطيبًا مفوهًا، وكان لديه أسلوبٌ حسن في الكلام والإقناع كمصعب بن عمير –رضي الله عنه-، فمن أقوال معاذ -رضي الله عنه- لابنه يعظه فيقول: “يا بني، إذا صليت فصل صلاة مودع لا تظن أنك تعود إليها أبدًا واعلم يا بني أن المؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدمها وحسنة أخرها”
وقد قال رجل لمعاذ بن جبل: “علمني”، فقال معاذ: “وهل أنت مطيعي”، قال: “إني على طاعتك لحريص”، فقال له معاذ: “صم وأفطر، وصل ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم”
فهذه صورٌ قليلة من حكمته وأقواله الحسنة.
ولكن القصة التي سطّرت اسم معاذ بن جبل –رضي الله عنه- بحروف من نور في سجلّ الدعاة إلى هذا الدين هي عندما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون على رأس وفدٍ لتعليم أهل اليمن دين الله جل جلاله، فبعد أن فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أرض مكة ودخل الناس في دين الله أفواجًا قدم وفدٌ من اليمن ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ويدخلوا الإسلام، فاحتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إرسال من يعلمهم تعاليم دينهم كما فعل من قبل في بيعة العقبة الأولى، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وفدًا من خيرة العلماء بهذا الدين وجعل معاذ بن جبل أميرًا عليهم ليذهبوا في رحلتهم الدعوية إلى اليمن.
وكانت هذه المرة الأخيرة التي يلتقي فيها النبي صلى الله عليه وسلم بمعاذ بن جبل قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، فلما كان معاذ بن جبل –رضي الله عنه- راكبًا دابته راحلًا إلى اليمن، أمسك النبي صلى الله عليه وسلم بلجام دابته وقال له: “يا معاذ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا وقبري” فبكى معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- حزنًا على أنها المرة الأخيرة التي يرى فيها حبيبه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فلما عاد إلى المدينة وجد النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي بالفعل فحزن حزنًا شديدًا على ذلك فقد كان معاذٌ يحب النبي صلى الله عليه وسلم حبًا جمًا.
إقرأ أيضًا: ما معنى اسم معاذ واهم صفاته الشخصية
حب النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل
رُويت الكثير من الأحاديث التي تؤكد شدة حبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومنها:
- ما رواه معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: “أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذ بيدِ معاذٍ فقال: يا معاذُ واللهِ إنِّي لأُحِبُّك، فقال معاذٌ: بأبي أنتَ وأُمِّي واللهِ إنِّي لأُحِبُّك، فقال: يا معاذُ أوصيك ألَّا تدَعَنَّ في دبُرِ كلِّ صلاةٍ أنْ تقولَ: اللَّهمَّ أعِنِّي على ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك”.
- روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: “نعمَ الرجلُ أبو بكرٍ، نعمَ الرجلُ عمرُ، نعمَ الرجلُ أبو عُبَيدَةَ بنُ الجرَّاحِ، نعمَ الرجلُ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، نعمَ الرجلُ ثابِتُ ابنُ قيسِ بنِ شمَّاسٍ، نعمَ الرجلُ معاذُ بنُ جبلٍ، نعمَ الرجلُ معاذُ بنُ عمرِو ابنِ الجَمُوح، نعمَ الرجلُ سهيلُ ابنُ بيضاءَ” فهذا دليل على عظمة معاذٍ أيضًا، فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم اسمه وسط عمالقة الصحابة كأبي بكرٍ وعمر –رضي الله عنهما-.
حب الصحابة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة –رضي الله عنه-: “إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ إذا أحَبَّ عَبدًا دعا جِبريلَ فقال: “يا جِبريلُ إنِّي أُحِبُّ فُلانًا فأَحِبَّه”، فيُحِبُّه جِبريلُ، ثم يُنادي في أهْلِ السَّماءِ: “إنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا”، فيُحِبُّه أهلُ السَّماءِ، ثم يوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ”.
فكما وضع الله القبول لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه- في قلب نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد وضع له القبول في قلوب صحابته –رضوان الله عليهم- أجمعين، فعن أبي سلمة أنه قال: “دَخَلتُ مسجدَ حِمصَ فإذا فيه نحوٌ مِن ثلاثينَ كَهلًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإذا فيهم شابٌّ أكحلُ العَينَينِ، بَرَّاقُ الثَّنايا، ساكتٌ، فإذا امتَرى القَومُ في شيءٍ أقبَلوا عليه فسَأَلوه، فقُلتُ لجَليسٍ لي: مَن هذا؟ قال: هذا مُعاذُ بنُ جَبلٍ، فوَقَعَ له في نَفْسي حُبٌّ، فكنتُ معهم حتى تَفرَّقوا، ثُمَّ هَجَّرتُ إلى المسجدِ، فإذا مُعاذُ بنُ جَبلٍ قائمٌ يُصلِّي إلى ساريةٍ، فسَكَتَ لا يُكلِّمُني فصَلَّيتُ، ثُمَّ جَلَستُ فاحتَبَيتُ برِدائي، ثُمَّ جَلَسَ فسَكَتَ لا يُكلِّمُني، وسَكَتُّ لا أُكلِّمُه، ثُمَّ قُلتُ: واللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، قال: فيمَ تُحِبُّني؟ قال: قُلتُ: في اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، فأخَذَ بحُبوَتي فجَرَّني إليه هُنيَّةً، ثُمَّ قال: أبشِرْ إنْ كنتَ صادقًا؛ سَمِعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: المُتحابُّونَ في جَلالي لهم مَنابرُ مِن نورٍ يَغبِطُهم النَّبيُّونَ والشُّهَداءُ”.
وهذه هي منزلة معاذ بين الناس، فقد كان –رضي الله عنه- يحب الله ورسوله فأحبه الله ورسوله ووُضع له القبول في الأرض.
عِلْمُ معاذ بن جبل رضي الله عنه
كان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة وساداتهم، فقد ذكرنا سابقًا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله على رأس وفدٍ لتعريف أهل اليمن بالدين وتعليمهم القرآن الكريم، وهناك جمع من الأحاديث التي رُويت في علم معاذ -رضي الله عنه-، ومنها:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام فقال: “أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بكرٍ وأشَدُّهم في أمرِ اللهِ عُمَرُ وأصدَقُهم حياءً عُثمانُ وأقرَؤُهم لكتابِ الله أُبَيُّ بنُ كعبٍ وأفرَضُهم زيدُ بنُ ثابتٍ وأعلَمُهم بالحلالِ والحرامِ مُعاذُ بنُ جَبلٍ ولكلِّ أمَّةٍ أمينٌ وأمينُ هذه الأمَّةِ أبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ”
- وقد كان معاذ -رضي الله عنه- قارئًا للقرآن، بل هو من الصحابة الأصح قراءة له، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “استَقْرِئوا القرآنَ مِن أربعةٍ: مِن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفةَ، وأُبَيِّ بنِ كعبٍ، ومعاذِ بنِ جبلٍ”
- وعن سهل بن أبي حثمة –رضي الله عنه- أنه قال: “كان الذين يُفْتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من المهاجرين: عمر وعثمان وعلي، وثلاثة من الأنصار: أُبيّ بن كعب، ومعاذ، وزيد”.
- قال عبدالله بن مسعودٍ -رضي الله عنه-: “إن معاذًا كان أمةً قانتًا لله”، فلمّا سأل عن معنى كلمة “أمة” قال: “الأمة الذي يعلم الخير”، وقد كان معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عالمًا بالخير كله.
جهاده في سبيل الله
شهد معاذ بن جبلٍ -رضي الله عنه- كثيرًا من المناقب والغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا وأُحدًا والخندق، كما شهد معه صلح الحديبية والعديد من المناقب الأخرى.
ولم تتوقف مسيرته الدعوية والجهادية عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل شارك في العديد من الغزوات التي كانت في عهد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب – رضي الله عنهما-، فقد كان يوم معركة أجنادين ضد جيش الروم قائدًا لميمنة المسلمين، فاستعمل قوة خطابته وإقناعه في تحفيز الجنود للقتال فخطب فيهم قائلًا: “يا معشر المسلمين، اشروا أنفسكم اليوم لله (أي: بيعوا أنفسكم اليوم لله) فإنكم إن هزمتموهم اليوم، كانت هذه البلاد دار الإسلام مع رضوان الله عليكم والثواب العظيم”، فكانت هذه بمثابة احماء شرارة المسلمين ضد أعدائهم من الروم كي ينتصروا عليهم.
وقاتل معاذ مع المسلمين حتى حازوا النصر في هذه المعركة العظيمة.
ولما كانت معركة اليرموك وهي أعظم معركة حدثت بين الروم والمسلمين، وقف معاذ بن جبل في ساحة المعركة (وكان يومئذ قائدًا للميمنة أيضًا) يخطب قائلًا: “يا عباد الله المسلمين، إن هؤلاء قد تيسروا للشدة عليكم، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر في البأساء” ثم نزل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- عن فرسه قائلًا: “من أراد أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه” وكان معاذ -رضي الله عنه- يودُّ القتال مع الجند المشاة تواضعًا منه، فجاء إليه ابنه عبد الرحمن ولم يزل صغيرًا فقال له: “يا أبتِ، إني لأرجو أن أكون أنا فارسا أعظم غناء عن المسلمين مني راجلًا، وأنت يا أبت راجلٌ أعظم منك فارسا ، أعظم المسلمين رجّالة، وإذا رأوك صابرًا محافظًا صبروا إن شاء الله وحافظوا” فرد عليه معاذٌ قائلًا: “وفقني الله وإياك يا بُني”.
ومعنى كلام عبد الرحمن بن معاذ بن جبل لأبيه أن القائد لابد وأن يكون ممتطيًا فرسه ممسكًا بلجامه في الحرب كي يشجّع باقي الجند على الثبات والإقدام لا أن يكون ماشيًا كباقي الجنود فلا يعرف الجند أين قائدهم وربّما يظنّوا أنه قد قتل فتضيع عزائمهم.
وهذه صورتان ضمن صور كثيرة من إقدام معاذ على الجهاد في سبيل الله، فقد كان –رضي الله عنه- بطلًا مقدامًا وقائدًا مغوارًا قلّما وُجِدَ مثيله.
مرض معاذ بن جبل
في الحديث الصحيح من رواية أسامة بن زيد –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها”.
كانت هذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته إذا ما حلّ الطاعون بأرض من أراض المسلمين، وهي أيضًا نفس الوصية التي التزم بها معاذ بن جبل –رضي الله عنه- حتى توفاه الله.
فقبل وقوع الطاعون بأرض الشام بعدة سنوات، أرسل خليفة المسلمين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- معاذًا إلى بلاد الشام ليعلم أهلها تعاليم دينهم ويُقرئهم القرآن كما فعل من قبل مع أهل اليمن، وكان الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجرّاح –رضي الله عنه- واليًا على الشام آنذاك، فلمّا ضرب الطاعون الشام وفتكَ بأهلها أصيب أبو عبيدة أيضًا بهذا الداء حتى توفاه الله، فلمّا وصل خبر وفاته إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب أمر بتولية معاذ بن جبل إمارة الشام، فوقف في الناس خطيبًا ومصبرًا لهم على ما أصابهم من آلام بسبب هذا المرض فقال: “يا أيها الناس إن هذا الوجع رحمةُ ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإنَّ مُعاذًا يسأل الله أن يقسِمَ لآل معاذٍ منه حظَّه”، ولم يكن معاذٌ –رضي الله عنه- يتمنى الموت لأهل بيته حاشاه، بل إنه قد أدرك أنه لا انتهاء لهذا الوباء إلا بانتهاء حياة من على هذه الأرض التي أصيبت به، فكان ينظر للمصلحة العامة للمسلمين أجمعين، فلو خرج أحد من أرض الشام يومها لانتقلت عدوى الطاعون في سائر البلاد الإسلامية، فكان لابد من أن يقعدوا في ديارهم تنفيذا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، فكانت كلمات معاذ بن جبل –رضي الله عنه- بمثابة المثبت والمقوِّي لهم على ما هم فيه من بلاء في ذلك الحين.
إقرأ أيضًا: من هو الصحابي الذي يدخل الجنة بغير حساب؟
وفاة معاذ بن جبل رضي الله عنه
لم يلبث معاذٌ –رضي الله عنه- إلا بضعة أشهر حتى أصابه المرض، وكان الصحابة الموجودون في الشام وعلى رأسهم أبو عبيدة ومعاذ -رضوان الله عليهم- ملتزمين بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج لئلا يصيب الطاعون بلاد المسلمين جمعاء، واستمروا على هذه الحال حتى وافتهم المنية وهم على ذلك.
وتوفي معاذ بن جبل –رضي الله عنه- في العام الثامن عشر للهجرة بعد رحلة بدأها من سنٍ صغيرة في الدعوة إلى الله –تعالى- والجهاد في سبيله ونصرة نبيه.
إلى هنا نكون قد أنهينا موضوعنا اليوم عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل، آملين أن نكون قد سلطنا الضوء على أهم محطّات حياته وأن نكون قد قدمنا سيرة موجزة عن هذا البطل الإسلامي العظيم.