النقد في العصر الجاهلي

إن دراسة النقد في العصر الجاهلي نستطيع من خلالها تقييم ونقاش أدب العصر الجاهلي، حيث إن العرب في تلك الفترة تميزوا بالأشعار القوية الفصيحة المختلفة عن غيرهم من الأمم، فتعددت أنواع الشعر لديهم لتبدأ من الغزل مرورًا بالرثاء وانهاءً بالفخر والحماس،  انطلاقًا من ذلك فسوف نعرض لكم النقد في الشعر الجاهلي من خلال موقع زيادة.

النقد في العصر الجاهلي

العصر الجاهلي هو الفترة التي سبقت بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم- وذلك استنادًا لما أشار إليه المفسرون والمؤرخون، وعلى أساس ما قدموه فإن تلك الفترة لا تتجاوز المائتين أو المائة وخمسين عامًا.

عرف العصر الجاهلي بالجاهلية وذلك نظرًا لعدم معرفة أغلبيتهم الكتابة والقراءة، فكان عرب البدو وقتها كالرحالة لم يكن لديهم طريقة ثابته لتعليم النشأ أو الاهتمام به، كما انتشر بذلك العصر التفاخر الأعمى بالنسب والحسب والتكبر.

يعرف النقد الجاهلي بأنه نقد بسيط لم يتعد حدود النقد الانطباعي أي الإحساس بالأشياء أولًا، حيث إن النقد الجاهلي لم يتعد التفسير والقيام بالأخذ من معايير المجتمع، وذلك ما يظهر في النقد الذي وصل إلينا من العصر الجاهلي.

وجد النقاد أن النقد في العصر الجاهلي يعد البذرة التي من خلالها تمت زراعة النقد العربي وبداياته، ظهر النقد في العصر الجاهلي من خلال ذي المجاز وسوق عكاظ، فيهم اجتمع الشعراء ليقوموا بإنشاد أشعارهم والتنافس فيما بينهم لاستعراض قدرتهم الشعرية.

يشير بعض النقاد والمؤرخون بأن الفترة الأولى للعصور الجاهلية، خالية من النقد، كما توجد فئة أخرى من النقاد تشير إلى أن النقد في العصر الجاهلي هو نقد منهجي يحتوي على القواعد التحليلية الموضوعية، وقواعد تفكيكية علمية.

يرجع سبب وجود النقد في العصر الجاهلي إلى طبيعة الإنسان الناقدة بالفطرة، حيث ودائمًا ما يقوم الانسان بطلب الأفضل والأحسن والأجمل في شتى نواحي حياته، وهكذا لن يخرج الأدب والشعر عن ذلك الإطار الخاص بالتطور، وكان يحتاج الإنسان في تلك الفترة الى سماع الشعر وقراءته لنقده وتذوقه، خاصة إذا كان الإنسان عالم بالشعر، مثل راوي الشعر نفسه وما أكثر الشعراء في العصر الجاهلي.

اقرأ أيضًا: الحياة الاجتماعية في العصر العباسي

معنى النقد

يعتبر النقد لغًة بأنه خلاف النسيئة، وذلك استنادًا إلى لسان العرب لابن منظور، ويعرف النقد بأنه علم التفرقة بين الدراهم وإخراج المزيف منها.

توجد العديد من التعريفات التي وردت في كتب اللغة، وتعني التمييز، والإعطاء، اختلاس النظر.

أما النقد اصطلاحًا فهو لا يبتعد معناه عن المعنى اللغوي للنقد، حيث التمييز بين الشعر الجيد والشعر الردئ.

يعرف النقد اصطلاحًا بأنه دراسة وتفسير وتحليل وموازنة ومقارنة الأعمال الأدبية بغيرها من الأعمال، ثم القيام بالحكم على تلك الأعمال الأدبية لتظهر قيمتها ودرجتها.

يعرف الأدب بشكل عام بأنه الكلام الإنشائي الذي يتصف بالبلاغة، والمقصود منه هو القيام بالتأثير في العواطف الخاصة بالمستمعين والقراء، سواء كان ذلك الكلام الإنشائي عبارة عن نثر او شعر.

النقد في البيئة الجاهلية

في إطار التعرف إلى النقد في العصر الجاهلي، نتعرف إلى أن وجود الشخص الناقد الذي يقوم الناس بالاحتكام إليه في الشعر كانت من الافكار المعروفة بين الناس بشكل عام، وبين الأدباء بشكل خاص، فالحكم النقدي كان من الأفكار الحاضرة في ذهن الشعراء، ودون تلك الفكرة ما قام الشعراء بالتنافس بين بعضهم البعض.

ظهر النقد الأدبي في العصر الجاهلي من خلال ثلاث مستويات، هم ما يلي:

1- النقد الذاتي

هو نقد الشاعر لنفسه، والعمل على تهذيب قصيدته، فالشاعر هو أكثر الأشخاص اهتمامًا بتجويد الشعر الخاص به، وذلك لإرضاء جمهوره الذي يتلقى الشعر، وللعمل على استقطاب عدد كبير من المعجبين والرواة.

أبرز أنواع ذلك النقد هو المدرسة الأوسية أو ما يعرف بعبيد الشعر، ومن أشهر رواد تلك المدرسة هو الزهير بن ابي سلمة الذي كان يستغرق ما يقارب السنة الكاملة للعمل على  تهذيب شعره وإعادة النظر فيه قبل الخروج به إلى الناس، لذلك سميت قصائد زهير بن أبي سلمة بالحوليات.

2– النقد الخاص

استمرارًا لما بدأناه من عرض النقد في العصر الجاهلي، واستكمالًا لثاني أنواع النقد، فها نحن نعرض النقد الخاص وهو نوع النقد الذي ظهر بين طائفة خاصة من المجتمع العربي، حيث يعتبر الشعر الخاص بين الشعراء يتمثل في رواية احتكام علقمة بن عبدة التميمي والزربقان بن بدر والمخبل السعدي إلى الشاعر ربيعة بن حذار الأسدي.

قال ربيعة لزربقان بأن شعره مثل اللحم الذي لم ينضج، ويتم أكله لعدم تركه نيئًا للانتفاع به، قال ربيعة للمخبل بأنه قصر عن الجاهلية، وقال فأنت يا علقمة شعر مثل المزادة التي تم إحكام خرزها وبالتالي لا ينقص منها شيء.

من أبرز شواهد تلك الفترة هم النابغة الذبياني، الذي كان يعرف بالفحولة والنقد الشديد، مثل كل الشعراء، حيث معرفتهم للشعر من ناحية، ومن ناحية أخرى التنافس فيما بينهم البعض، الذي يعمل على دفعهم إلى إصدار الأحكام النقدية التي تعمل على تهذيب وتقويم الشعر.

3- النقد العام

الذي يعرف بنقد جماهير العرب وعامتهم، حيث يعرف العرب بأنهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، لأنهم كانوا يتذوقوا الأدب بالفطرة والسجية، ومن خلال فطرتهم كانوا يحملون شغفًا كبيرًا للشعر بشكل خاص.

كان لهؤلاء العامة الذوق الخاص والاتجاه المحدد في الشعر، وكانت لهم قوالب خاصة تعمل على جذب الأفراد إليها أكثر من غيرها.

سمات النقد في العصر الجاهلي

اتصف النقد الأدبي في العصر الجاهلي بالعديد من الصفات، حيث كان يوجد اتصال بين النقد والأدب منذ نشأة العصر الجاهلي وظهوره، كان ذلك الاتصال أساسي بسبب ما ينتج عن العملية النقدية، حيث تطور الأدب وارتقى مستواه من حيث الأفكار، ومن حيث اللغة والأسلوب.

عرفت العملية النقدية بالعصر الجاهلي بأنها كانت متاحة عند كل الأدباء المبدعين والمستمعين أصحاب الذوق في الأدب، لذلك يقوم النقد بالاستناد إلى حكم الذوق والابتعاد عن العلمية والموضوعية.

تعرف سمات النقد في العصر الجاهلي بما يلي:

1- النقد الفطري

كان يعرف العرب في العصر الجاهلي بمدى براعتهم الأدبية خاصة فيما يتصل بالأجناس الأدبية التي قامت الطبيعة الخاصة بالعصر الجاهلي على فرضها عليهم، وكانت تلك الطبيعية تعمل على تلبية الاحتياجات اليومية للشعراء حيث صياغة الخطب والنظم الشعرية.

قامت الأجناس الادبية بتشكيل الوسيلة الإعلامية التي قام العرب من خلالها بتناقل أخبارهم، وتسجيل التاريخ الخاص بهم، وحفظ أيامهم ومفاخرهم، حيث كانت تطبع آدابهم الفخرية وتنطلق من أفواه هؤلاء الشعراء دون التكلف أو التصنع.

في حال أن النقد كان متصلًا بالأدب، فاكتسب الأدب من النقد الطبيعة الفطرية التي تبعد عن التحليل المتكلف والإمعان.

النقد الأدبي في العصر الجاهلي كان له من القدر ما ليس بالهين، حيث انتشاره بين الأدباء والمتلقين الذي استندوا  في نقدهم على الذوق الفني الخاصة بهم الذي كان يملي عليهم أن يكونوا أفضل في بعض المواضع البلاغية والأسلوبية.

أو يملي عليهم ذوقهم الفني المعاني والمضامين معًا، وذلك على أساس المعرفة الصحيحة للغة العربية لهؤلاء الأدباء، والأحاسيس اللغوية الدقيقة التي تقوم بدفع هؤلاء الأدباء إلى الحكم على القصيدة بشكل كامل بالبراعة والجودة أو الحكم على القصيدة بالخطأ أو عدم الاستحسان.

من أشهر الأحكام النقدية التي حدثت في العصر الجاهلي، كانت مثبته لخاصية اتباع الفطرة والسليقة في القيام بإطلاق الحكم النقدي، وتلك الأحكام كان ظاهرًا بها الذاتية المطلقة، في حين أنها كانت تبعد عن التأثر بالعصبية القبلية التي كانت معروفة بالعصر الجاهلي.

قام إمرئ القيس بإنشاد:

فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ

وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب

جاءت حادثة تلك الأبيات بسبب رؤية أم جندب أن إمرئ القيس قد قام بإجهاد فرسه بسبب ضربه له بالسوط، وقام بإيذاءه في ساقه وبالتالي تأثر حركة الفرس ، وفي ذلك الوقت أدرك علقمة بن عبدة التميمي بصيده وهو الفرس الغير محكم بالضرب بالسوط أو القيام بدفعه بسبب ما صاب ساقه ، حيث قال علقمة:

فأدركهنّ ثانيًا من عِنانه

 يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب

اقرأ أيضًا: أين يقع سوق عكاظ

على الرغم من سيطرة حكم الذوق العام والفطرة أدبية في الحكم النقدي الذي كان يقوم بإصداره النقاد الجاهليين على الأدباء والشعراء بشكل عام، إلا أن أحكام هؤلاء النقاد لم تكن تعرف بالعشوائية المطلقة، لأنهم كانوا يستندوا إلى القواعد والأحكام التي كانت مخزنة في عقولهم،

كانت الفطرة اللغوية لنقاد العصر الجاهلي تفرض عليهم النظام في النقد، أيضًا كانت تفرضهم فطرتهم في البلاغة والبيان على النظام في النقد وعدم العشوائية في إصداره.

عرف النقاد الجاهليين بأنهم أهل الفصاحة الذي قام الله سبحانه وتعالى بتحديهم في القرآن الكريم، وكان أهل العصر الجاهلي لا يحتاجون إلى العمل بتدوين تلك القواعد والأحكام التي يستندوا إليها في نقد الشعر، بسبب ارتكاز آدابهم على مبدأ الشفاهية، وكانوا يستخدمون الكتابة بشكل قليل في جميع أمور حياتهم.

2– النقد الجزئي

عرف النقد في العصر الجاهلي بالجزئية، حيث إن النقاد يتناولون خلال نقدهم للقصيدة، الجزء الذي لفت انتباههم، من خلال التركيب النحوي أو اللفظ، أو لفت ذلك الجزء لانتباههم بسبب ما تتضمنه من إيقاع عروضي ومضمون.

يقوم الناقد في العصر الجاهلي بإطلاق حكمه على القصيدة أو النص الأدبي في مجمله من خلال ذلك الجزء، والقيام بغض البصر عن سائر العناصر الخاصة بالعمل الأدبي الذي يقوم  بنقده، على عكس النقد بالعصر الحديث الذي يعمل على نقد العمل الأدبي من خلال تناوله لجميع العناصر التي توجد فيه.

تحتوي العديد من مصادر الأدب في النقد في العصر الجاهلي لعدة مواقف نقدية تثبت وقوف النقاد على جزء معين في العمل الأدبي ، وإطلاق الحكم النقدي من خلال ذلك الجزء فقط.

من ذلك نرى أن النقاد قد عابوا على الذبياني قصيدته التي وجدوا بها إقواء في بيت من ابياتها أي اختلاف القافية في عروض البيت الشعري بين الرفع والنصب والجر، حيث يقول النابغة الذبياني:

أَمِن آلِ مَيَّةَ رائِحٌ أَو مُغتَدِ

عَجلانَ ذا زادٍ وَغَيرَ مُزَوَّدِ

 أَفِدَ التَرَجُّلُ غَيرَ أَنَّ رِكابَنا

 لَمّا تَزُل بِرِحالِنا وَكَأَن قَدِ

 زَعَمَ البَوارِحُ أَنَّ رِحلَتَنا غَداً

 وَبِذاكَ خَبَّرَنا الغُدافُ الأَسوَدُ

قامت قصيدة النابغة الذبياني على رواية الدال المكسورة، ولكنه قد أخطأ في قوله ” الغداف الأسود” حيث ضم الدال في بيت واحد من الأبيات، ولم يلاحظ النابغة ذلك على أن أتى بمغنية تقوم بغناء تلك القصيدة، ومن خلال ذلك ظهر الإقواء الذي قام بإحداث خللًا في الإيقاع الخاص بالقصيدة.

عاب النقاد قصيدة الذبياني لذلك الخطأ، ولم يقوموا بالانتباه إلى باقي عناصر القصيدة التي جعلت منها قصيدة جيدة.

كان النقد الجزئي إنعكاس للبنية الفنية في هيكل القصيدة، حيث قامت تلك البنية على الجزئية الموضوعية التي تضمن وحدة البيت، التي تحتاج إلى تحقيق الانسجام والتناسق بين شطري البيت الواحد، وقد توجد العديد من الموضوعات التي تقوم أبيات القصيدة بعرضها، ويراعي بها الشاعر حسن التخلص، للتمكن من تخفيف وقع الانتقال من موضوع على آخر.

3– النقد الموجز

بدأ النقد في العصر الجاهلي بطريقة موجزة شديدة الاختصار، حيث اقتصر النقد الأدبي على الحكم النهائي، ولا يحتاج الناقد إلى تعليل حكمه وبيان أسبابه في عرض ذلك النقد، ويكتفي الشاعر المنتقد بالأحكام التي قد وجهت إليه دون طلب التحليل والتعليل لذلك.

كان الشاعر يدرك بمرجعية هذا الحكم النهائي، وأنه يعود إلى الذوق الناقد فقط، ولكن لا يمتنع الناقد عن تحليل حكمه، وتعليله إذا طلب منه ذلك، مثلما فعلت أم جندب عندما عللت الحكم إلى علقمة على زوجها.

من أشهر الأحكام النقدية التي تقوم بعكس الإيجاز في الحكم، وتعمل على تجنب التعليل، أنه في حالة تحاكم الشعراء الأربعة: الزبرقان بن بدر، وعبدة بن الطبيب ، والمخبل السعدي عند ربيعة بن حذار الأسدي في القصائد التي قد كانوا قاموا بإنشادها أمام ربيعة بن حذار الأسدي.

حكم ربيعة بن حذار الأسدي بأن شعر الزبرقان كان كاللحم السخن، لا ينضج ولا يؤكل ولا يترك نيئًا يمكن الانتفاع به،

أما شعر المخبل السعدي قال فيه ربيعة بأنه قصير مقارنة بشعر أصحابه، بينما يعلو على شعر الآخرين، أما عبدة بن الطبيب قال ربيعة بن حذارى في شعره بأنه مثل وعاء الماء الذي تم  إحكام غلقه، فهو لا يقطر ولا يمطر، وكل تلك الأحكام الموجزة تعمل على تلخيص حال شعر جميع هؤلاء الشعراء، والعمل على عدم التعليل أو التبرير من قبل الناقد.

يعرف الإيجاز في الحكم النقدي بأنه نوع من أنواع التفاعل البلاغي الذي يقوم بإنشاده النقاد من خلال النصوص الأدبية التي يقومون بالحكم عليها، وفي العصر الجاهلي عرف أهله بأنهم أهل البلاغة ومن ذلك وجب على الأحكام النقدية الذين يقومون بإطلاقها أن تكون موجزة.

حيث تأدية معناها المقصود من خلال أقل ما يمكن من اللفظ، وهكذا فإن الشاعر أو الأديب يقوم بتلقي هذا الحكم والإدراك بالمقصود به،  دون الحاجة إلى التعرف إلى التحليل أو التبرير لذلك الحكم.

في حالة أن الحكم كان مختزلًا في كلمة واحدة، مثل حكم طرفة بن العبد في الإشارة إلى الخطأ في المعني عندما قال “استنوق الجمل” أي أن الجمل قد فقد قوته وأصبح ناقة، وقال طرفة ذلك لأن تعرف الصعيرية بأنها قلادة يتم وضعها في أعناق الناقات وليس الجمال، وذلك نقدًا  لبيت المسيب بن علس حينما قال:

وَقَدْ أَتناسَى الهَمَّ عِندَ احْتِضَارِهِ

 بِنَاجٍ عَلَيْهِ الصَّيْعَريّةِ مكْدَمِ

4- العمومية

لا توجد قوانين وقواعد ثابته، تم تدوينها للاحتكام إليها خلال نقد النصوص الأدبية، والذهاب إلى حكم الذوق العام، وما تقره فطرة الناقد الأدبية عليه، تلك الفكرة أدت إلى اتسام الحكم النقدي بالعصر الجاهلي بالعمومية.

حيث إن في النقد بالعصر الجاهلي يقوم الناقد بإصدار أحكامه على النصوص الأدبية بشكل عام، على أساس نقطة معينة سلبية أو إيجابية يقوم الناقد بالوقوف عندها.

تلك العمومية تعرف بأنها من السلبيات الخاصة بالحكم الجاهلي، حيث إن الأحكام النقدية في حالة أنها عامة، فإنها تفتقر إلى الدقة، وأصبحت الأحكام بعيدة عن الموضوعية، لأن يقوم الناقد بالتغافل عن الكثير من المحاسن بين بقية عناصر العمل الأدبي لإبراز الأخطاء التي قام النقد بلفت الانتباه إليها.

من أشهر الأحكام النقدية العامة هي تلك التي كانت موجهه إلى المعلقات، حيث وجدت المعلقات الاستحسان عند عامة الناس، وأشادوا بتفوقها وجودتها على بقية القصائد الأخرى التي ظهرت في العصر الجاهلي.

كانت المعلقات يتم تعليقها على جدران الكعبة، للفخر والاعتزاز بها، ولتكريم أصحابها، وأيضًا في بعض الأحيان قد تكون القصيدة الواحدة سببًا في استحسان جميع القصائد الخاصة بشاعر واحد، كما حدث مع النابغة الذبياني الذي قام بإطلاق حكمًا عامًا على الشاعر لبيد بن ربيعة، حيث قال له بأن من أفضل شعراء العرب بسبب معلقته:

 عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها

 بِمَنىً تَأَبَّدَ غَولُها فَرِجامُها

 فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسمُها

 خَلَقًا كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها

 دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهدِ أَنيسِها

حِجَجٌ خَلَونَ حَلالُها وَحَرامُها

اقرأ أيضًا: ظاهرة الشعر الحديث

مظاهر النقد الأدبي في العصر الجاهلي

في إطار حديثنا حول النقد في العصر الجاهلي فقد ظهر في العصر الجاهلي النقد بالتزامن مع ظهور الشعر، والنقد كان يعرف بأنه العمل على تمييز الشعر الجيد عن الشيء الرديء، وتوجد العديد من مظاهر النقد الأدبي، وسوف يتم عرضها في النقاط التالية:

1- النقد اللغوي

قام الفرد العربي بإحاطة نفسه بأسرار اللغة العربية بشك كامل، ومن ذلك أدرك الدلالة الوضعية لكلمات اللغة العربية.

ففي حين خروج الشاعر من هذه الدلالة، والعمل على استخدام الكلمة في مكانها الصحيح دون الإشارة إلى العلاقة التي توجد بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد للكلمة، ومحاولة إصلاح تلك الفعلة.

مثلما فعل طرفة بن العبد مع الشاعر المسيب بن علس أو الملتمس، عند وصفه للجمل ب”الصيعرية”، التي تعد من صفات الناقة فقط، حول طرفة بن العبد إعادة الشاعر إلى الصواب، وقال” استنوق الجمل”، وذلك بعد علمه للخطأ من خلال فطرته اللغوية السليمة بأن تلك السمه يتم الإشارة إليها للناقة وليس الجمل.

قام الأعشى باستعمال كلمة “الطحال” في مقام العشق والمحبة، فلام عليه النقاد، لأن الشعراء لم يستعملوا تلك الكلمة من قبل في معنى الحب، ولكنهم استعملوا بدلًا من الحب والعشق كلمات القلب والكبد والفؤاد، لذلك لام عليه النقاد.

2- نقد المعني والسلوب

قام نقاد العصر الجاهلي في النقد في العصر الجاهلي بملاحظة أن اللغة قد قامت بوضع تعبيرات عن الاحاسيس والأفكار والمشاعر والذات، وسجلت القيمة، وصورت البيئة والطبيعة من حولها، فإذا قامت لغة الشاعر بالموافقة السليمة، تم رضا النقاد عن حسن ما يقوله الشعراء.

في حالة عدم موافقة لغة الأدباء أو الشعراء للمعنى الذي يتم التعبير من خلاله عن الموافقة السليمة، والعمل على الاستهجان به وإظهار السخط، وتتمثل ملاحظات نقد المعنى والأسلوب في النقاط التالية:

  • النظر في المبالغة، والعمل على مطابقتها بالفطرة السليمة الخاصة بهم.
  • المطابقة بين اللفظ والمعنى، والعمل على الربط بينها وبين ما تشير إليه.
  • وضوح المعاني والأفكار.
  • المقارنة بين الشعر والشعر الآخر، ومحاولة حكم الشعراء على بعضهم البعض.

النظر في المبالغة، والعمل على مطابقتها بالفطرة السليمة الخاصة بهم

قام النقاد بتوجيه انتقادهم في النقد في العصر الجاهلي إلى المبالغات التي لا تتناسب مع الطابع العربي السليم، ولا تقوم النفس العربية بالارتياح إليها، وقام النقاد بقبول المبالغة التي توجد في ميدان المدح والكرم والجود الموجودة في أنفسهم، وجاء عن عنترة بن شداد بالغزل في عبلة ما يلي:

وإذا سكرت فإنني مستهلك

مالي وعرضي وافر لم يكلم

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى

وكما علمت شمائلي وتكرمي

من النماذج الخاصة بالمبالغة المقبولة بين أوس بن حجر في وصفه للسحاب الكثيف:

دان مسف فويق الأرض هيدبه *** يكاد يدفعه من قام بالراح

لم يقم هذا البيت بالخروج من الدائرة المقبولة للمبالغة التي قاموا بقبولها من قبل، وتوجد كلمة كاد التي جعلت المبالغة تكون محبوبة ومقبولة في النفس العربية في ذلك الوقت.

عند قيام الشعراء أو الأدباء بالمبالغة في تصوير العواطف، والعمل على وصف الأحاسيس والمشاعر، لم يقبل النقاد تلك المبالغات غير المألوفة، حيث قال بن الربيعة في وصفه لحدة سيفه ومدى قوته في التأثير على دروع الأعداء:

فلولا الريح أسمع من بحجر *** صليل البيض تقرع بالذكور

قام النقاد بالتعليق على ذلك البيت بأنهم أشاروا إليه بأنه أكثر البيوت كذبًا، التي تم تداولها بين العرب، لأن كيف يقوم من في الحجر بالسماع إلى صليل السيوف، ويوجد بينه وبين مكان المعركة مسيرة تقارب العشر اليام أو اكثر من ذلك.

على الرغم من ذلك استخدام كثير من الشعراء هذا القسم في المبالغة في أشعارهم، مثل: النابغة وإمريء القيس، والأعشي وعنترة بن شداد، والمرقش الأكبر، والحطيئة وغيرهم من الشعراء.

المطابقة بين اللفظ والمعنى

تظهر المطابقة بين اللفظ والمعنى من خلال رواية النابغة البياني عند القيام بنقد حسان بن ثابت في:

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دمَا

ولدنا بني العنقاء وابني محرق

فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما

قال النابغة الذبياني لحسان بن ثابت بأنه على الرغم من أنه شاعر، إلا انه قلل من سيفه وجفائه، وقام بفخر من ولد، ولم يفخر بمن قام بولادته، فجاء النقد هنا في المبالغة التي تأتي تحت نقد المعنى، لأن المقام هنا كان الفخر، وكانت تطلب المبالغة، ولكنه قام بالفخر بأولاده ولم يعمل على الفخر بأجداده.

في قصيدة رثاء الخنساء لأخيها صخر قالت:

قذى بعينك أم بالعين عوار *** أم أقفرت مذ خلت من أهلها الدار

أشار النابغة الذبياني إلى الخنساء بأنه لولا أن (أبا البصير) قام بنداءه، لقال أنها من أفضل الشعراء في السوق، ومن ذلك غضب حسان بن ثابت، واخبره بأنه أفضل منه ومن ابيه ومن جده، وقبض النابغة على يده وقال له بأنه لا يحسن القول مثله، وقال:

فإنك كالليل الذي هو مدركي *** وإن خلت أن المنتأى منك واسع

النقد العروضي

يعرف النقد العروضي بأنه التناسق في الأنغام في النقد بالعصر الجاهلي، حيث ارتبط الشعر العربي بالأنغام الموسيقية التي أخذها العرب من وحدة الإيقاع التي شعروا بها في القصائد، وقام العرب بتأليف النغمات التي استقرت وتطورت من خلال تطور الشعر والعمل على انتقاله من مرحلة على أخرى.

اعتاد الشعراء الموهوبون على تلك النغمات الموسيقية الذين قاموا بإقراض أبياتهم من خلال وحدة الوزن والقافية بالطبع الأصيل، وإذا قام الشاعر بالخروج عن النغمات المعروفة، بالتالي لا تسترح لها الأذن بسبب غرابة النغمة الموسيقية.

اقرأ أيضًا: التطور الحضاري للدولة الإسلامية

الموازنة بين الشعراء

تظهر الموازنة بين الشعراء في النقد في العصر الجاهلي من خلال قصة علقمة الفحل وإمرئ القيس، حيث العمل على الاحتكام على “أم جندب”، حيث عملت على التوازن بين ما أعطوها من الشعر، ثم قامت بالحكم بينهم، وقامت بتفضيل علقمة على إمرئ القيس، وقاموا بالاهتمام بالمعلقات وفضلوها على القصائد الأخرى، واختاروا بان يقوموا على تعليق تلك المعلقات في قصورهم.

كان يتم النظر إلى جودة الشعر، من حيث المعنى والفكرة وخلوها من الغموض، وظهر ذلك في بعض الأحكام التي صدرت من العامة التي تم قولها في الشعر الخاص لبعض الشعراء، حيث أداء الشعر للوظائف الجمالية، ومراعاة الفطرة العربية حيث الجودة والجمال.

يظهر ذلك من خلال قول أحيحة بن الحلاج لناقته:

إذا بلغتني وحملت رحلي *** عرابة فاشرقي بدم الوتين

في تلك الحادثة قال أحيحة بن الحلاج باعتراض على التنكر والتعسف الذي قام بإظهاره الشاعر إلى ناقته بأنها بئس المجازاة، يستمد ذلك النقد من الفطرة العربية التي تستنكر مقابلة الإحسان بالإساءة.

كان العصر الجاهلي من بدايات انطلاقة الشعر في الوطن العربي، حيث تنافس الشعراء وقاموا بالحكم والنقد على بعضهم البعض، لكي تشتد حدة التنافس بينهم، وظهرت العديد من سمات ومظاهر النقد في العصر الجاهلي.

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.