والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس تفسير الآية من سورة آل عمران

والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس هي آية وردت في القرآن الكريم تضم على معنى جميل وخصال حميدة قل من يتحلى بها في زماننا هذا، فالعفو عند المقدرة وكتمان الغيظ ليس من فطرة الإنسان من الأصل، فقلما تجد إنسانًا يقدر على العفو عن شخصٍ آذاه ولو أذية بسيطة، وقلما تجد من يخفي غضبه من شخصٍ آخر.

وفي هذا الموضوع سنبين تفسير وشرح هذه الآية الكريمة، ولما اختص الله هذه الخصلة من بين كل الخصال بالذكر في كتابه العزيز، وما جزاء من يتحلى بهذه الخصلة الكريمة من الناس.

والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس

يقول الله –تعالى- في سورة آل عمران: (ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ)، ولكي نفسر هذه الآية يجب أن نرجع إلى الوراء قليلًا إلى الآيات التي قبلها، حيث جاءت هذه الآية في سياقٍ متكاملٍ مترابط لا تُفهم كلُ آيةٍ منه على حدة.

إقرأ أيضًا: ايات قرانية عن الاخلاق وأدلة من السنة عن الاخلاق

تفسير قوله –تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)

في الآية 130 من سورة آل عمران يخاطب الله –تعالى- عباده المؤمنين فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فقد أمر الله عباده المؤمنين به المصدقين بوجوده الطائعين له في الأمر والنهي بقوله: (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً)، فلا يدخل الربا في جميع معاملاتهم، ولا يُقرضوا غيرهم على أن يأخذوا زيادة عند سداد هذا القرض؛ وقد كانت معظم معاملات العرب في الجاهلية يشوبها الربا، فكان أحدهم يقترض القرض من آخر، ثم تمر الأيام ويحين موعد السداد، فإذا لم يأت المقترض بما اقترض فإن المُقرض يقول له: إمَّا أن تقضي ما عليك من دينٍ أو نزيد في المدة ويزيد ما عليك من المال، فإذا كان للمقترض مالٌ يسدُّ به دينه فعل، وإن لم يكن أطال المُقرضُ المدة وضاعف الدين، وفي ذلك ما فيه من الظلم وعدم مراعاة أحوالِ العباد، فقد أوجب الله على المُقرض إمهال المُقترض المُتعسر ونهى عن زيادة دينه لدرجة لا يتحملها.

ثم أكد الله –تعالى- الأمر بعدم تعاطي الربا فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، فقد فسرها بعض المفسرين مثل الإمام البغوي بأن الله أمر عباده بالتقوى وفي أمر الربا خاصةً، فلا يأخذونه ولا يتعاملون به.

وذَكر ابن كثيرٍ أن الأمر بالتقوى هنا عامٌ في كل أمور الحياة، وعلى ذلك فإن أمر الله –تعالى- هنا بالتقوى يشمل الربا وغيره من المعاملات المادية أو المعنوية.

ثم ذكر في الآية التي تليها تحذيرًا للمؤمنين من عذاب النار وحرِّها وشدة لهيبها فقال: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)، واتقاء النار يقتضي البُعد عما قد يُسبب في وُلوجها من الكفر أو المعاصي بأشكالها وألوانها، واستبدالها بالطاعات وفعل الخيرات التي توجب دخول جنةٍ عرضها السماوات والأرض أعدَّها الله –سبحانه وتعالى- لعباده المتقين.

وفي هذا ترهيب لعباده وتخويفٌ لهم من عواقب الربا، فقد أمر الله –تعالى- في الآية السابقة بالابتعاد عنه بأسلوب الترغيب، ثم استعمل أسلوب الترهيب كي لا يفعله كلُ من يخاف عذاب الله ويخشى منه.

تفسير قوله –تعالى-: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

وجه الله أمرًا آخر لعباده المؤمنين بأن قال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وطاعة الله معناها أن يفعل المرء ما أمره الله به ويجتنب ما نهى الله عنه، فيمتثل لأوامره ويجتنب نواهيه، وكذلك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لا يتكلم إلا بوحي منزل من عند الله عن طريق أمين الوحي جبريل عليه السلام، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلها مثل طاعة الله.

وفي اقتران ذِكْرِ طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذِكْرِ طاعة الله تنبيه على أهميتها وعِظَمِ أمرها، فقد قال الله –تعالى- في آية أُخرى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً).

إقرأ أيضًا: انا مع العسر يسرا تفسير السعدي وابن كثير لمعنى الآية

تفسير قوله –تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)

يستكمل الله –عز وجل- أوامره للمؤمنين من عباده فيقول: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، أي: إذا أقبلتم على الله بطاعتكم لأوامره واجتناب نواهيه يكون جزاؤكم جنة كبيرة واسعة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، عرضها عرض السماوات والأرض أعدت لمن اتقى الله بطاعته فيما أمر به من واجبات والابتعاد عمَّا نهى عنه من ممنوعات ومحظورات.

والعرض هنا ليس ما يكون عكس الطول، بل المقصود بالعرض في هذه الآية السعة، فهي كقول البعض: أراضٍ عريضة، أي: واسعةٍ ممتدة.

وقد قيل أن معنى قوله –تعالى-: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) أي: جَهِّزها الله لعباده المتقون الذين وضعوا الحواجز بينهم وبين معصية الله ليقوا أنفسهم فاستقامت لهم الدنيا والآخرة.

وسبب نزول هذه الآية ذكره الإمام المُفسِّر شهاب الدين الألوسي –رحمه الله- فقال: (وسبب نزول هذه الآية أن المسلمين قالوا: “يا رَسُولَ الله، بَنُو إِسْرَائِيلَ كَانُوا أَكْرَمَ عَلَى الله مِنَّا، كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ كَفَّارَةُ ذَنْبِهِ مَكْتُوبَةً فِي عَتَبَةِ دَارِهِ اجْدَعْ أَنْفَكَ (أي: اقطعها)، اجْدَعْ أٌذٌنَكَ، افْعَلْ كَذَا وَكَذَا” فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله –تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرٍ مِن ذَلِكُمْ؟” ثم تلا: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) إلى قوله –تعالى-: (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وقد جاءت آياتٌ كثيرة تدل على هذا معنى هذه الآية، منها قول الله –تعالى- في سورة الحديد: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

تفسير قوله –تعالى-: (ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ)

يذكر الله –تعالى- صفات المتقين الذين ختم الآية السابقة بذكرهم فيقول: (ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ).

ومعنى قوله –تعالى-: (ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى ٱلسَّرَّآءِ وَٱلضَّرَّآءِ)أي: في جميع أحوالهم ينفقون ويتصدقون على غيرهم من الفقراء والمحتاجين، فيتصدقون في صحتهم ومرضهم، وفي يُسرهم وعُسرهم، وفي شدَّتهم ورخائهم، فهم لا ينشغلون عن الإنفاقِ والتصدُّق في سبيلِ الله –تعالى- إذا كانوا قادرين على ذلك.

وقد حث الله –تعالى- عباده المؤمنين على الإنفاق في آياتٍ أخرى منها قولهُ –تعالى- في سورة البقرة: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال أيضًا: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ)، فاللإنفاق في سبيل الله أجرٌ عظيم يضاعفه الله لمن يشاء حتى يدخل الجنة ويكون من أهلها.

ومعنى قوله –تعالى-: (وَٱلْكَٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ وَٱلْعَافِينَ عَنِ ٱلنَّاسِۗ) أنه من صفات المتقين أيضًا أنه إذا كان بداخلهم غضبٌ كتموه فلا يظهروه لأحد، ثم اتْبَعُوا ذلك الكتمان عفوٌ عن المسيء في حقهم، وجاء في تفسير الإمام البغوي أن كظمَ الشيء عند العرب حبسه عند امتلائه، وليس في ذلك حثٌ على ترك الحقوق تضيع من أيدي أصحابها، فإن الأمر هنا ليس على سبيل الوجوب، فإن شاء عفا عن المسيء إليه وله الأجر عند ربه، وإن شاء لم يعفُ عنه وليس عليه وِزْر.

ثم قال الله –تعالى-: (وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ)، وقد فسرها ابن كثير في كتابه “تفسير القرآن العظيم” أن الله –تعالى- أراد أن يُعْلِمَ عباده أن كتمان الغضب والعفو عند المقدرة إنما هو من مقامات الإحسان وهو أعلى مرتبة من الإيمان.

إقرأ أيضًا: إنا أنزلناه في ليلة مباركة تفسيرها

أحاديثٌ عن فضل كتمان الغيظ

وفي فضل كتمان الغضب والعفو عند المقدرة وردت أحاديث كثيرة، نذكر منها الأحاديث التالية:

  • قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ”.
  • في الحديث الصحيح أنَّ رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولًا ينفَعُني اللهُ به وأَقلِلْ لَعلِّي لا أُغفِلُه” قال: “لا تغضَبْ” فعاد له مرارًا كلُّ ذلك يرجِعُ إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “لا تغضَبْ”.
  • روى أبو هريرة –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ليسَ الشَّديدُ بالصُّرعةِ، ولَكنَّ الشَّديدَ الَّذيُ يملِكُ نفسَهُ عندَ الغضبِ”

إلى هنا نكون قد انتهينا من موضوعنا اليوم عن تفسير آية ( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس )، وذكرنا أيضًا تفسير بعض الآيات المتعلقة بمعناها ومرادها، على أمل أن يكون موضوعنا هذا قد ساهم في زيادة معلوماتكم ومعرفتكم عن تفسير آيات كتاب الله –عز وجل-.

التعليقات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.